12 نوفمبر 2011

الحالة دايت

ليس كل حديث عن الموت ندب وحزن

ربما يصنع كاتبًا من الموت"كتابة"

بين محطات تلك المشاعر المتضاربة داخلي كنت أقرأ كتاب"الحالة دايت"،حالة من الوجع اللذيذ،الذي اعترف أني كنت أحاول أن أتحاشاه الفترة الماضية من عمري،لم أكن بالحالة النفسية التي تسمح لي ان أقرأ كتاب وأنا أعرف مسبقًا أنه كتاب عن الموت،وما يحمله لفظ الموت من دوائر محزنة.

الموت ذلك الزائر الغير لطيف الذي يحشد جيوشه كي يصارع أحبتنا ونحن نراه يفعل ذلك وليس بين أيدينا سوي أن نكتب عنه،نصنع من أحزاننا أسطورة خيالية تهديء روع آخرين ربما حزنوا أو ربما ينتظرون حزنًا ما.

تعرفت علي الموت للمرة الأولي عند وفاة جدتي،لم يكن لموت جدي أو خالتي أو إخوتي البنات الثلاث الصغار ذكري سيئة عن الموت،بل كنت أبكي يوم وفاة جدي استحياء من عدم البكاء،كنت صغيرة وأري الجمع يبكون،فقررت أن أشاطرهم الأحزان،وعندما توفت جدتي لأبي بكيت علي حزن والدي،لقد كانت المرة الأولي التي أري فيها هذا الرجل العملاق طفلا صغيرًا يبكي،وعرفت يومها أن فقدان الأم كارثة كبري.

أما عن موت جدتي لأمي فهو الكارثة التي جلست في بيت جدتي وتغيبت عن العمل كي أكون بجوارها عندما تحدث،ولما شاء القدر أن تحدث كنت عدت إلي العمل،أيام طوال عانت بها جدتي من الموت الإكلينيكي كما عاني والد سيد الوكيل،عادت لي بالقراءة كل التفاصيل التي أصدقها تمامًا لأنها حدثت بالتفصيل أمام عيني ساعة بساعة ،لكن الساعة الأخيرة فاتتني لسبب لا يعلم سوي الله كنهه.

لا يمثل الموت لي حالة"مزعجة"،فقد أعتدته في الفترة الأخيرة،لقد شاركت في غسل جدتاي،ونمت بمفردي في البيت بعد وفاة جدتي،طاردني شبحها بالفعل لدرجة أني كنت أشعر بملامساتها الخفيفة فوق كتفي فأدير ظهري بسرعة إليها،فأجد البيت يرشح بالحنين.

أثناء قراءتي للكتاب الذي جاءني كهدية من صديق عزيز أكد لي أن الكتاب رائع جدا وأنه قرأ عدة مقاطع منه علي النت،كانت تتضارب داخلي عدة حالات ليس بينها"الحالة دايت".

1.كنت أستشعر مدي الذكاء الذي امتاز به الكاتب حينما صنع تلك الخلطة الشهية من الموت والحياة والكتابة،مزيج من الألم اللذيذ والذكريات الهادئة،أقول هادئة لأن الذكريات في الغالب تكون شجية محزنة إذا ما ارتبطت بالفقد لكن ذكريات الوكيل كانت هادئة ومتزنة بالقدر الذي يجعله يوقف جريان الفيديو الخاص بحياته وينقل لنا بضع مشاهد ثلاثية الأبعاد منه.

2.شيء شخصي خاص بي هو ذكريات الموت والحياة التي تسير بعد كارثة موت شخص يعني الكثير بالنسبة لك،كنت أتوقف كثيرًا أثناء القراءة حتي أستعيد رباطة جأشي ورغبتي في تناسي الماضي،ذكرياتي مع المرض ثم الشفاء منه،ذكرياتي مع مرض السرطان الذي أصاب أمي وكيف كانت نعمات البحيري تصف ما كانت أمي تريد قوله بالضبط"تصف الألوان وخامات القماش وزخارف الدنتيلا الرقيقة التي طالما لامست جسدها،عليها أن تخلع كل هذا الآن،لترتدي قميصًا أبيض واسعًا مفتوحًا من الخلف،تتمدد علي ترلي من الصاج الأبيض البارد،يدفعونه بين دهاليز الصمت والموت إلي غرفة العمليات،حيث سيقف بضعة أطباء،وممرضات بملابس وأقنعة معقمة:إنهم في مؤامرة صغيرة لاستئصال جزء من جسدها"(الحالة دايت،صـ62)

3.إعجابي بلغة الكاتب الطازجة التي لا لولا أنها أصابت جرحًا غائرًا بداخلي كنت وصفتها بالعذوبة واللمعان،وتلك المزاوجة المدهشة بين الإبداع كخلق جديد والنقد كمحاولة لقراءة خلق الآخرين"والله عنده حق،فالموت جميل ويستحق،جميل مثل الفن والحقيقة والمطلق واليقين الصوفي المغوي بالأبدية،وهو المجهول الغامض المحاط بالأساطير والحكايات حتي ليبدو أكثر سرديات التاريخ البشري ثراءً وغرائبية وتنوعا،لهذا فإن تكفيك هذه السردية الكبري في عدة سرديات صغري يسهم بطريقة ما في فهم الموت ورصد تجلياته وصوره التي تتفاوت بين الموت الحقيقي والموت المجازي والنفسي..إلخ.فالخوف وانعدام الرغبة والتوحد مثل هذه المشاعر تبدو أحد تمثيلات الموت في هذه المجموعة،والطريف أن النصوص تكشف أن معكوسها أيضًا قد يكون صحيحًا،فالتهور والنهم وتأخر الوعي بالذات هي من صور الموت أيضًا"(الحالة دايت،صـ96)

4.الوصف الرشيق وصنع حالة من الاندماج مع شخصياته التي كتب عنها،فكأني أحد الشعراء يدي معروقتين أرفعهما للصلاة،أو كأني زوجة أحد الكتاب التي اكتشفت أنها أمه،أو ربما واحدة لا تعرفه مطلقًا،أو ربما كنت غانية أحبها فأنظر إلي يدي هذه المرة أجدها ناعمة كالحرير فأفضل أن أكون حبيبة شاعر أو ملهمة له،لكنه مات قبل أن يخبرني بالسر الذي اكتشفته عند قرائتي للكتاب،ساعتها أندم كثيرًا أني لم أعش مع هذا الشاعر من قبل"لابد ألهمني السرطان مصافحة يد خشنة مرتجفة هي يد زوجة صديقي حمدي سعيد،وصفتها-ذلك الوقت-أنها يد تليق بربة بيت،ولم أكن أدري أنها يد السرطان الذي سكن بيت صديقي ونام علي سريره،لابد أنه نام بجوار هذه اليد طوال سنوات دون أن يدري أن الموت يرقد علي سريره،ولابد أنه شعر بها تحتضنه وتتحسس جسده في ليالي الشتاء البارد،كان جسده قويًا فلم يشعر بثقل السرطان وهو يحتضنه"(الحالة دايت،صـ55).




هناك تعليق واحد:

  1. تحياتي لك يا موناليزا، وتقديري لذوقك ولوعيك الراقي الجميل
    سيد الوكيل

    ردحذف